لما انتهى الرسول ( صلى الله عليه وآله ) من آخر حجَّةٍ حَجَّها ، قَفلَ راجعاً إلى المدينة المنورة ، وحينما انتهى موكبه إلى غدير خَم هبطَ عليه أمين الوحي يحمل رسالة من السماء بالغة الخطورة .
وكانت هذه الرسالة تحتم عليه بأن يحطَّ رِحالَهُ ليقوم بأداء هذه المهمة الكبرى ، وهي نصب الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) خليفة ومرجعاً للأمة من بعده ( صلى الله عليه وآله ) .
وكان أمر السماء بذلك يحمل طابعاً من الشدَّة ولزوم الإسراع في إذاعة ذلك بين المسلمين .
فقد نزل عليه الوحي بهذه الآية :
( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَم تَفْعَل فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) المائدة : 67 .
فقد أُنذِرَ النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأنه إن لم ينفِّذ إرادة الله ذهبت أتعابه ، وضاعت جهوده ، وتبدَّدَ ما لاقَاهُ من العناء في سبيل هذا الدين .
فانبرى ( صلى الله عليه وآله ) بعزم ثابت وإرادة صلبة إلى تنفيذ إرادة الله ، فوضع أعباء المسير وحَطَّ رِحاله في رمضاء الهجير ، وأمر القوافل أن تفعل مثل ذلك .
وكان الوقت قاسياً في حرارته حتى كان الرجل يضع طرف ردائه تحت قدميه لِيَتَّقِي به من الحَر .
ثم أمَرَ ( صلى الله عليه وآله ) باجتماع الناس ، فَصلَّى بهم ، وبعد ما انتهى من الصلاة أمر أن توضع حدائج الإبل لتكون له منبراً ، ففعلوا له ذلك .
فاعتلى عليها وكان عدد الحاضرين - فيما يقول المؤرخون - مِائة ألف ، أو يَزيدونَ على ذلك .
وأقبلوا بقلوبهم نحو الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ليسمعوا خطابه ، فأعلن ( صلى الله عليه وآله ) ما لاقاه من العناء والجهد في سبيل هدايتهم وإنقاذهم من الحياة الجاهلية إلى الحياة الكريمة التي جاء بها الإسلام .
كما ذكر ( صلى الله عليه وآله ) لهم كَوكَبَة من الأحكام الدينية ، وألزمهم بتطبيقها على واقع حياتهم ، ثم قال لهم : ( انظُروا كَيفَ تُخَلِّفُوني في الثقلين ) .
فناداهُ منادٍ من القوم : ما الثقلان يا رسول الله ؟
فقال ( صلى الله عليه وآله ) :
( الثقل الأكبر كتابُ الله ، طَرفٌ بِيَدِ اللهِ عَزَّ وَجلَّ ، وَطرفٌ بِأَيديكُم ، فَتَمَسَّكُوا به لا تَضلُّوا ، والآخر الأصغر عِترَتي ، وإنَّ اللَّطيفَ الخَبيرَ نَبَّأَنِي أنَّهُمَا لن يَفتِرقا حَتى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوض ، فَسَألتُ ذلك لَهما رَبِّي ، فلا تُقَدِّمُوهُمَا فَتهلَكُوا ، ولا تُقَصِّرُوا عَنهُمَا فَتَهلَكُوا )
ثم أخذ ( صلى الله عليه وآله ) بيد وَصيِّه وباب مدينة علمه الإمام علي ( عليه االسلام ) لِيَفرضَ ولايته على الناس جميعاً حتى بَانَ بَياضُ إِبطَيْهِمَا ، فنظر إليهما القوم .
ثم رفع ( صلى الله عليه وآله ) صوتُه قائلاً :
( يَا أَيُّهَا النَّاس ، مَنْ أولَى النَّاس بِالمؤمنين مِن أَنفُسِهم ؟ ) .
فأجابوه جميعاً : اللهُ ورسولُه أعلم .
فقال ( صلى الله عليه وآله ) :
( إنَّ الله مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولَى بهم من أنفسِهِم ، فَمن كنتُ مَولاه فَعَلِيٌّ مَولاهُ ) .
قال ذلك ثلاث مرات أو أربع ، ثم قال ( صلى الله عليه وآله ) :
( اللَّهُمَّ وَالِ مَن وَالاَهُ وَعَادِ مَن عَادَاهُ ، وَأَحِبَّ مَن أَحبَّهُ وَأبغضْ مَن أبغَضَهُ ، وانصُرْ مَن نَصَرَه واخْذُل مَن خَذَلَهُ ، وَأَدِرِ الحَقَّ مَعَهُ حَيثُ دَار ، أَلا فَلْيُبَلِّغِ الشاهِدُ الغَائِبَ ) .
وبذلك أنهى ( صلى الله عليه وآله ) خطابه الشريف الذي أَدَّى فِيه رسالة الله ، فَنَصَّبَ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) خليفة ، وأقامه عَلَماً للأمة ، وقَلَّدَهُ مَنصب الإمامة .
فأقبل المسلمون يهرعون وهُم يُبَايِعُون الإمام علي ( عليه السلام ) بِالخِلافَة ، وَيُهَنِّئُونَهُ بِإِمْرَةِ المُسلمين .
وأمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) أُمَّهَات المؤمنين أَنْ يَسُرْنَ إِليهِ وَيُهَنِّئْنَه ، فَفَعَلْنَ ذلك .
وعندها انبرى حَسَّان بن ثابت فاستأذن النبي ( صلى الله عليه وآله ) بتلاوة ما نظمه من الشعر ، فأذن له النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فقال حَسَّان :
يُنَادِيهُمُ يوم الغَدير نَبِيُّهُم ** نَجْم وأَسمِعْ بِالرَّسُولِ مُنَادِياً
فَقالَ فَمنْ مَولاكُمُ وَنَبِيُّكم ؟ ** فَقَالوا وَلَم يُبدُوا هُنَاك التَّعَامِيَا
إِلَهَكَ مَولانَا وَأنتَ نَبِيُّنَا ** وَلَم تَلْقَ مِنَّا فِي الوِلايَةِ عَاصِياً
فَقالَ لَهُ : قُمْ يَا عَلِيُّ فَإِنَّنِي ** رَضيتُكَ مِن بَعدِي إِمَاماً وَهَادياً
فَمَنْ كنتُ مَولاهُ فَهذا وَلِيُّه ** فَكُونُوا لَهُ أَتْبَاعُ صِدقٍ مُوالِياً
هُناكَ دَعا : اللَّهُمَّ وَالِ وَلِيَّهُ ** وَكُنْ لِلَّذِي عَادَى عَلِيّاً مُعَادِياً